منذ أن أطلت الشمس وتسللت من شبه النافذة في ذلك المنزل الصغير ، حتى دبت فيه الحركة ، أم هزيلة وأب أعمى وثلاث صبية صغار ، أحمد ، محمد ، وهشام ، لم يبرح الأب مكانه ، تقافز الصغار استعدادا للمدرسة ، وقفت الأم محتارة في الذي يدعى مطبخا ، ماذا سأطعم صغاري اليوم ، هاه ، جيد بعض كسرات الخبز والزيتون .
التف الصغار حول المائدة لم يفاجئهم ما رأوه فلقد تعودوا
-وداعا أمي ، وداعا أبي
-كونوا حذرين ، تجنبوا الجنود ، ولا تتركوا أيدي بعض
خرج الثلاثة تقافزوا فرحا ، وهم ينشدون أغنية وطنية اعتادوا على سماعها ، ثم تحول نشيدهم إلى هتاف مثل الذي سمعوه في مظاهرة أمس ، والذي قبله
-أحمد ، محمد ، أكملوا الطريق للمدرسة ، فقد نسيت كراستي
-سننتظرك هنا لا تتأخر
-لا أذهبوا أنتم ، سوف أتي مع خالد
-خالد أم رنا ؟؟
-أذهب يا أحمد وامسك جيدا بيد أخاك لن أتأخر
أكمل الصغيران طريقهما ولم يبرح هشام مكانه حتى اختفيا في آخر ذلك الزقاق، خبأ حقيبته في صندوق خشبي ثم رفع رأسه في السماء ، صرخ بصوت عالي تردد صداه في جنبات المكان : أحبك يا فلسطين .........
انطلق مسرعا ، ولم ينسى أن يجمع بض الحجيرات ويخفيها في جيبه المرقوع .
-هاه ، رنا لا بد أنني تأخرت ، آسف .........
-لا بأس
-هذه لك ، يمد يده ، وهو يحمل وردة حمراء ، ثم يطأطئ رأسه بخجل
-شكرا ، هل ستغيب اليوم عن المدرسة أيضا .
-بالطبع ، ألا ترين جيبي
-أخشى عليك من الجنود ثم أنني مللت الكذب على المدرسة كل يوم
-لن يهدأ لي بال حتى أرى بلادي حرة ، وأركض في شوارعها دونما خوف أو حواجز ، فقد سأمت منظر الدماء ورائحة الموت.........
-هذه حياتنا ولا تنسى بأنك لا تزال ابن الخامسة عشر
-أي حياة هذه ، ونحن مكبلين بالخوف ، تقتلنا نظرات الأوغاد في اليوم آلاف المرات وتجلدنا سياط عباراتهم الكريهة وأصواتهم التي ليست إلا ا نباح كلاب كم أمقتهم ، أشعر بأن كرههم دم يمشي في شراييني
-هشام ......أخشى عليك فهؤلاء لا يفرقون بين صغير أو كبير
-يضحك بخبث ، ثم يطأطئ رأسه ، لا تخافي لن أموت حتى أراك تزفين لي عروسا في ثوب أبيض طويل ،
-اعتلت حمرة الخجل وجهها وسحبت يدها من بين يداه ، أنا ذاهبة حتى لا أتأخر
مضت في طريقها إلى مدرستها ، بينما مضى هو في طريق آخر ، و هو في الطريق سمع صوت طلقات رصاص ، وهتاف ، فعرف بأن هنالك معركة جديدة بين جنود الاحتلال وأبناء بلاده ، ركض إلى حيث الأصوات ، وصل ، هاله المنظر فهذه المرة المقاومة قوية وقف للحظات يتأمل المنظر كان الشباب يتساقطون واحدا تلو الأخر وكلما سقط أحدهم هتف البقية بالتكبيرات : الله أكبر الله أكبر ،
لم ينتظر كثيرا ، فانطلق إلى وسط المعركة كانت في هذه الأثناء تركض وراءه فقد سمعت هي الأخرى الأصوات فخافت عليه ، ولكنها لم تستطع منعه فهاهو ينطلق بكل قوة كانت تراه وهو يرمي الحجارة ويتقدم بكل شجاعة ، أي حب هذا تحمله لبلادنا يا هشام ، وأي قلب لديك ،
ظلت ترقبه للحظات ، وهو يتقدم علت الأصوات وازداد الطلقات التي كانت تنزل على الشباب بدون رحمة ، رأته وهو يقاتل وتذكرت كلامه عن فلسطين ، ولكن لم تطول ذكرياتها ، فقد انهار بطلها بعد أن غدرت به إحدى الرصاصات ، واخترقت جسمه الهزيل ، صرخت ركضت إليه ، لم يسعفها الوقت طويلا ، فقد أخذت هي الأخرى نصيبها من الرصاص وقعت قريبة منه مد يده وعلامات الرضا بادية على وجهه
-علمت بأنك لن تتركيني ، وهاهو وعدي لك يتحقق ، فها أنت عروسي ولكن هذه المرة بثوب أبيض لم ترتدي مثله عروس من قبل ثوب أبيض طاهر معطر برائحة دمائك الزكية .
، مدت يدها أعطته الوردة : رددت بصوت متقطع : ولكن ماذا عن وعدك لفلسطين
-لا تقلقي هنالك الآلاف من هشام ، وما أن يموت واحد حتى يكمل غيره المهمة ، اقتربي
-لا أستطيع ، أقترب أنت
علت زفراتهما ، فعجزا عن الكلام إلا أنهما تبادلا نظرات قالا فيهما كل ما يريدان .
انقطعت الأصوات وانسحب العدو من الساحة ، بقيت جثث الشباب ممدة ، وآثار دخان وحطام ، وسط هذه اللوحة التي ترسم مثلها العشرات كل يوم في شوارع فلسطين رقد كل من هشام ورنا وكانا يمسكان بوردة حمراء اختلط لونها مع لون دمائهما .
الله أكبر الله أكبر مر طابور النعوش ونامت الأرواح في سلام على أمل أن يشهد هشام آخر تحرير فلسطين، ويلتقي برنا لتزف إليه دونما خوف